الآن، وقد أمضينا ثلاث سنوات في تجهيز هذا الحاسوب، بحيث يعمل ذاتيًّا وعن بُعد، نرى أنه يتعيَّن على المختبرات الأخرى إجراء تجارب مماثلة في مجال الحوسبة الكمية، بما يسهم في الإسراع من وتيرة العمل البحثي.
تعتمد الحواسيب الكمية في عملها على السلوك العجيب الذي تنتهجه المادة على المستوى الذري؛ ففي وسع جُسيم واحد تخزين معلوماتٍ متعددة، وهو ما يتيح لهذه الحواسيب -في واقع الأمر- أداء العديد من الحسابات في الوقت ذاته. ويُنتظر أن تسهم هذه الحواسيب في حل مشكلاتٍ طالما تعذَّر حلُّها على الحواسيب التقليدية، والتعجيل بوضع نماذج للتفاعلات الكيميائية التي تتمُّ داخل البطاريات، أو ضمن عملية تصميم الأدوية، أو حتى الإسراع بوضع نماذج المحاكاة الخاصة بتدفق المعلومات عبر الثقوب السوداء.
بيد أنَّ الأجهزة الكَمية الجيِّدة بالغة الهشاشة، وكلما زاد حجم الجهاز الكمِّي المستخدم، زادت احتمالات تعرُّضه للتشوش بسهولةٍ أكبر. فلكي تؤدي بعض المكوِّنات الكمية وظائفها بكفاءة، لا بد من تبريدها إلى درجة حرارة تقارب الصفر المُطلق، في حين يتطلب عمل بعض المكونات الأخرى تخزينها في فراغ يتجاوز في تخلخله الفضاء الخارجي. ومن الصعوبة بمكان تحضير الحالات الكمية الدقيقة، والتحكم فيها، فضلًا عن الحفاظ على استقرارها على مدى ساعات؛ حيث إن التيارات الشاردة، والتغيُّرات في درجة الحرارة، والاهتزازات، من شأنها أن تؤدي إلى زعزعة استقرار الجهاز الكمي بسهولة.
تقوم فكرة الحاسوب الكمي الموجود بجامعة ميريلاند -الذي أتولى الإشراف عليه بالاشتراك مع الفيزيائي ماركو ستينا- على استخدام ذراتٍ متطابقة، يصل عددها إلى 32 ذَرّة، تشكِّل البِتات الكمية (qubits) اللازمة لعمل الحاسوب. تُرفع كل ذَرّة في الهواء بتعريضها لمجالات كهرومغناطيسية، ثم يجري تبريدها بواسطة أشعة الليزر، بما يجعلها تستقر في حالة سكون تقريبًا. وعادةً ما يحتوي ذلك الجهاز على آلاف المكونات الإلكترونية والبصرية، تكون جميعها مُصطفَّة بدقةٍ على طاولة من الصلب، بعد خفض مستوى الاهتزاز بها، يبلغ عرضها 3 أمتار، ووزنها 500 كيلوجرام. كما يتطلب جيشًا من الأفراد، كي يتولَّوا تعديل أوضاع المرايا وضبط الإشارات، فضلًا عن ضرورة استبدال المكونات، واختبارها، وفحصها، وتحديثها على نحوٍ مستمر.
لكن في عام 2016، اتخذنا قرارًا بإعادة تصميم جهازنا، بحيث يمكن أن يعمل عن بُعد، لا لأجل الراحة والتيسير، بل لأن أهداف البحث تتطلب ذلك. وكان علينا أن نضيف المزيد من البتات الكمية، مع تفادي رفع مستوى الضوضاء، أو زيادة الأخطاء، حتى يتسنَّى لنا اختبار عمليات البوابة الكمية، والدارات واللوغاريتمات الكمية بكل ما تنطوي عليه من تعقيد.
وسعيًا إلى تحقيق ذلك، كان علينا أن نتبنَّى منهجًا مغايرًا. ومن هذا المنطلق، اتَّجهنا إلى استخدام حالات معينة من نظير الإتيربيوم 171 كبِتَّات كمية، حيث إنها تتسم بدرجة عالية من الاستقرار، إلى حد أنها تُستخدم على نطاق واسع في تصنيع الساعات الذرية. كما أقدمنا على تصغير حجم مكونات التحكم الأكثر دقة، وإضافة محولات طاقة ودارات تغذية راجعة، وكذا تنفيذ جميع العمليات عبر منصة برمجية مفتوحة المصدر. وإضافة إلى ذلك، مَدَدْنا أواصر التعاون مع الكثيرين من شركاء الصناعة، من أجل إنجاح هذه المساعي، بمشاركة اثنين من الباحثين في مجال الهندسة بجامعة ديوك، هما: جونجسانج كيم، وكينيث براون.
وفي شهر إبريل من عام 2019، بدأ التشغيل الذاتي لنموذج مصيدة الأيونات المصحَّحة الشاملة، القابلة لإعادة التهيئة (الذي يُشار إليه بالاسم المختصر "يوريكا" EURIQA). وهكذا، أمكن وضع الجهاز بأكمله في صندوق يبلغ حجمه مترًا مكعبًا واحدًا، نادرًا ما يُفتح. ويتردد أحد الباحثين على المختبر مرةً واحدة أسبوعيًّا، في زيارةٍ تستغرق 10 دقائق إلى 20 دقيقة؛ من أجل إعادة تشغيل هذا الحاسوب العجيب، الذي ربما توقف فجأةً عن العمل، أو إعادة توصيل مصدر الطاقة الذي ربما تزحزح عن موقعه، مما أدى إلى انقطاع التيار.
ولمَّا كانت الجامعة التي أنتسبُ إليها قد أغلقت أبوابها في شهر مارس الماضي، من جرَّاء تفشِّي جائحة "كوفيد-19"، فقد استمر جهاز "يوريكا" في العمل بلا انقطاع، على مدار اليوم، طوال أيام الأسبوع. وقد تمخَّض عن ذلك توصُّل الفريق إلى بيانات رائعة؛ فقد تحوَّل الحرم الجامعي إلى مدينة أشباح، وأسهم ذلك في الحفاظ على ثبات درجة حرارة المختبر، ومنْع تذبذبها من جهة، وخفض مستوى الضوضاء الاهتزازية -في هذا المبنى الذي أضحى خاويًا- من جهةٍ أخرى. إنها واحدة من التجارب الكمية الجامعية القليلة التي تحرز تقدمًا ملموسًا في الوقت الراهن.
وولكن ينبغي النظر إلى الصورة الأكبر؛ فنمط التشغيل عن بُعد هو المطلوب تحديدًا في أبحاث الحوسبة الكمية. وقد رأينا كيف أن شركات مثل "آي بي إم" IBM، و"جوجل" Google، و"هانيويل" Honeywell، فضلًا عن شركة "أيون كيو" IonQ الناشئة، التي شاركتُ في تأسيسها (والتي تعتمد أنظمتها على تقنية "يوريكا")، شرعَتْ في طرح منتجاتها الأولى من أجهزة الحوسبة الكمية تجاريًّا. وبحلول نهاية عام 2020، سوف تُتاح أنواع عدَّة من الحواسيب الكمية عبر الخدمات السحابية التي تستضيفها شركتا "أمازون" Amazon، و"مايكروسوفت" Microsoft. غير أن الباحثين لن يُسمح لهم بالاطلاع على التفاصيل الداخلية لهذه الأجهزة، بما يمكِّنهم من تطوير تصميمات مخصَّصة تلائم تطبيقات علمية بعينها، ولن يكون في إمكانهم أن يشتركوا في وضع تصميم واحد، أو تحقيق الاستفادة المثلى من التفاعل المتبادل بين عملية تصنيع الحاسوب، واستخدامه.
وجديرٌ بالذكر أن غالبية أبحاث الحوسبة الكمية التي تُجرى في الوقت الراهن تشتمل على دراسة خصائص البتات الكمية، وكذلك عمليات البوابة الكمية، وشرح لآلية التحكم فيهما. وفي بعض الحالات، يجمع الباحثون بين مكونات مختلفة من أجل تنفيذ تطبيق علمي محدد. ومن ثم، يكون اختيار البتات الكمية، وعمليات المنطق الكمي، وأنماط تنفيذ البرامج، وسُبل تحسينها، مرتبطًا بإنجاز هدفٍ واحد فقط. وعوضًا عن ذلك، سيكون من الرائع لو أمكن توفير بعض تلك المكونات على هيئة وحدات تركيبية بسيطة، تدعم خاصية "التوصيل والتشغيل" (plug-and-play)، مثلما تُوَصَّل ذاكرة محمولة بكاميرا الهاتف الذكي. وعندئذٍ، لن يُضطر الباحثون إلى بناء كل شيء من الصفر، وإنما سيكون في إمكانهم تركيب وحدة ما، أو تعديل قيمة متغيِّر بعينه، أو إعادة برجمة إحدى الدارات عن بُعد.
وهكذا، يمكن بناء جهاز كهذا عن طريق اعتماد تقنية معيَّنة قائمة على البتَّات الكمية، وإدخال ما يلزم من تعديلات عليها، ثم تزويد الجهاز بمعدَّات وبرمجيات التحكم، كما فعلنا في حالة جهاز "يوريكا". ويمكن كذلك أن يقود التطوُّر التقني إلى الاستعاضة عن البتات الكمية بأخرى، وإلى إعادة تصميم الأجهزة، كما كان الحال في الحوسبة التقليدية، عندما مهَّد ابتكار المحولات المصنوعة من الأنابيب المفرَّغة في أربعينيات القرن الماضي لظهور أشباه الموصِّلات المصنوعة من الجرمانيوم، التي قادت بدورها إلى ظهور رقاقات السيليكون في الستينيات.
إن المبادرات الكبرى في مجال الحوسبة الكمية -التي انطلقت في عدة بلدان، تشمل الولايات المتحدة، وأوروبا، والصين، وكندا، وأستراليا، وسنغافورة، وروسيا- تقوم على الاستثمار في أبحاث البتات الكمية، بينما لا تتيح للباحثين سوى الاستفادة من الخدمات السحابية التجارية. فما أحوجنا إلى إجراء أبحاث موسعة، تجد لنفسها سبيلًا بين هذين النقيضين! فالصنَّاع هم مَن سيتمكنون -في نهاية المطاف- من طرح الحواسيب الكمية على نطاق واسع، غير أن "التطبيقات الثورية" القادرة على إحداث الفارق مبكرًا قد تُولَد كذلك من رحم الاكتشافات العملية. ومن ثم، فإن إطلاق العنان للحواسيب الكمية المتكاملة، بحيث تجد سبيلها إلى المجتمع البحثي، من شأنه أن يُعجِّل بالسعي في هذا الاتجاه.
No comments:
Post a Comment